الأربعاء، 18 فبراير 2009

المدارس العلمية العتيقة بالرحامنة تقاوم الإهمال



تزخر الرحامنة، من شمالها حتى أقصى جنوبها، بالعديد من المدارس العلمية
العتيقة، التي تشكل أحد أهم مكونات الحياة الثقافية بالمنطقة. وإذا كانت
لهذه المدارس العلمية العتيقة بالرحامنة وقت تأسيسها إلى جانب دورها في
تلقين الطلاب العلم والمعرفة، مهام أخرى مرتبطة بالتصدي لثقافة المستعمر
والمساهمة في تأهيل أطر الدولة المغربية المستقلة، فإن حالة الإهمال التي
تعيشها اليوم تدعو إلى القلق الشديد و تبعث على التذمر. فمنها ما اندثر و
أضحى أطلالا كالمدرسة “الخضراوية” بالجبل الأخضر بأقصى الشمال الشرقي
للرحامنة و التي أسسها الفقيه الحاج احمد الخضراوي، ومدرسة “كدالة” شرق
بوشان التي شيدها العلامة سيدي عياذ الكدالي والذي خصه المختار السوسي
بترجمة هامة في كتابه “المعسول”، ومنها مدارس لازالت تقاوم يد الإهمال
التي امتدت إليها قسرا كمدرسة دوار صالح لعبيدات شمال شرق بوشان ومدرسة
الهدى بجماعة الجعيدات، ومدرسة مركز بوشان، و مدرسة ابن خيران بقيادة
أولاد أتميم. ولعل أهم معلمة ثقافية بمنطقة الرحامنة يطالها التهميش على
مرأى و مسمع من القيمين على شؤون الأوقاف الإسلامية و الثقافية والتربية
الوطنية إن على المستوى الإقليمي أو الوطني، هي مدرسة “القائد العيادي
العتيقة” بابن جرير. مدرسة القائد العيادي أو المدرسة البنكريرية كما
يسميها محمد المختار السوسي، كانت نواتها الأولى، في العشرينيات من القرن
الماضي، عبارة عن كتاب يتخرج منه حفظة القرآن الكريم من أبناء المنطقة و
نواحيها. إلا أن التاريخ الرسمي لإحداثها، كمؤسسة تعنى بتدريس علوم
الإسلام و اللغة و غيرهما، كان في سنة 1946. ويعتقد الدكتور محمد ناجي بن
عمر، أستاذ بكلية الآداب بجامعة ابن زهر بأكادير، أن السياق الثقافي الذي
ظهرت فيه المدرسة العيادية، باعتبارها فضاء يستقطب الطلبة من مختلف أنحاء
المغرب، لا يمكن فصله عن الأوضاع السياسية في المغرب خلال السنين الأخيرة
قبل الاستقلال. ففي إطار سلك الحركة الوطنية لاستراتيجية نشر العلم بشكل
مؤسساتي يضمن للدولة تأهيل الأطر عندما تحصل على الاستقلال، عن طريق
انتداب أعضاء منها الى حواضر المغرب لقيادة نهضة علمية في مواجهة الثقافة
الاستعمارية، بعثت محمد الغازي الى الدار البيضاء، و عبد السلام الوزاني
الى وجدة، والمكي الناصري الى تطوان وإبراهيم الوزاني الى تازة و بوشتى
الجامعي الى القنيطرة والمختار السوسي و أخاه إبراهيم الإلغي الى مراكش
حيث سيعملون على افتتاح مدارس حرة كشكل من أشكال المقاومة في غياب أحزاب
سياسية مهيكلة. وبعد أن أسس مدرسة الرميلة بمراكش، توجه المختار السوسي
الى ابن جرير مستثمرا علاقته الجيدة بالقائد العيادي الذي كان يوكل إليه
تنظيم تعليم أولاده، فأقنعه بتشييد المدرسة، و كان للسوسي ما طلب “فبنى
المدرسة في قرية (ابن كرير) في قبيلة الرحامنة و جعلها على يدي”
(المعسول). و بذلك يجزم د. محمد ناجي بن عمر بأن “تأسيس المدرسة
البنكريرية يكاد يشكل أحد الاستثناءات القليلة التي يتفق فيها المثقف
الوطني مع رجل السياسة حول نقطة حاسمة في الوجود الثقافي”. من جهته يعتبر
ذ. عمر الابوركي أن القائد العيادي، الى جانب كونه رجل سياسة و حرب، كان
يساهم في تنظيم المجال الثقافي، و أن بناء المدرسة العيادية و مسجدها تم
في الفترة التي أصبح فيها العيادي يجالس العلماء و الفقهاء، و أن ذلك تم
بتأثير من صديقه العالم محمد المختار السوسي. كانت مدرسة القائد العيادي
تستقبل، على غرار المدارس العلمية العتيقة الأخرى، حفظة القرآن الكريم و
تلقنهم علوم اللغة و العلوم الدينية استنادا الى أمهات المراجع والكتب.
فحسب د. محمد ناجي بن عمر، كان طلبتها يدرسون في النحو مقدمة ابن أجروم و
منظومة الجمل ولامية الأفعال والألفية لابن مالك. أما في اللغة والأدب،
فيعتمدون على القاموس المحيط و تاج العروس والمعلقات السبع واللاميات
الثلاث، و قصيدة بانت سعاد و البردة واللمزية و الشمقمقية، و دالية اليوسي
و رسالة ابن زيدون. كما يدرسون البلاغة و العروض و العلوم الشرعية كالفقه
و أصوله و الحديث والتفسير و السيرة النبوية، إضافة الى علوم أخرى كالفلك
و التوقيت و الحساب و المنطق. فالملاحظ أن طلبة مدرسة القائد العيادي
كانوا يزاوجون في دراستهم بين الأدب و الدين و العلم في تناغم و اعتدال و
تمسك بالثوابت الدينية للأمة المغربية و على رأسها المذهب المالكي. و قد
استقدم المختار السوسي للمدرسة فقهاء من سوس أبرزهم : إبراهيم بن احمد
الإلغي، المعروف عند طلبة المدرسة بإبراهيم المرشد و الذي كان المختار
السوسي يعزه و يقدره كثيرا، وقد تنقل بين مدارس في سوس ثم بالقرويين
فمراكش ثم “عميدا” للمدرسة البنكريرية وتوفي في 29 ماي 1989. و الأستاذ
محمد بن نصر بن الحسن، و يعرف لدى الطلبة ببناصر المنتصر، الذي ينحدر من
إلغ، ألحقه المختار السوسي في أواخر 1947 بالمدرسة العيادية وتوفي في 17
فبراير 1982. و من أبناء المنطقة، الأستاذ سالم بنيعيش المزداد سنة 1920
بدوار النواجي، درس بابن يوسف بمراكش وبالقرويين التي تخرج منها سنة 1947
قبل أن يلتحق بالمدرسة البنكريرية، و قد توفي في 13 فبراير 1993.
كانت هذه المؤسسة التعليمية تتيح لطلبتها آفاقا علمية واسعة تبوئهم أعــلى
المناصــب. وبحســــب د. بن عــمر، فإنها كـــانت بــمثــابــة ثــانويــة
باللــغــة التربــويــة و التعــليــمــية الحالية، حيث كانت تستقبل حفظة
الذكر الحكيم (الحاصلون على الشهادة الابتدائية بلغة اليوم)، الذين يقضون
بها فترة معينة ثم ينتقل المتفوقون منهم إلــى مدرســة ابــن يوســف التي
كانت بمثابة كلية. و بالقرويــين كان الطلبة يحصلون على شهادة “العالمية”
التي تعادل اليوم شهادة دكتوراه الدولة. كما كانت المؤسسة توفر لطلبتها
الإيواء في 48 بيتا للسكن، والمؤونة و كسوة سنوية. وقد أدرج الأستاذ عمر
الابوركي في كتابه “الظاهرة القائدية” أهم الأملاك العقارية التي حبسها
القائد العيادي على المساجد و المدرسة وهي: 36 دكانا في سوق الذهب بالملاح
بمراكش، دكاكين ومنازل بحي باب دكالة، رياض بحي القصبة، مجموعة من
الرياضات بحي قصيبة النحاس داخل مراكش، ثلث أراضي تافراطة بالحوز، أراض
فلاحية شاسعة ببوشان وبجماعة لبريكيين بالرحامنة، فرنان و حمام بابن جرير.
فماذا بقي اليوم من المدرسة البنكريرية غير بناية يخالها المارة ملحقة
بالمسجد القديم؟ بناية تنضح بعبق التاريخ، وتذكر بزمان الوصل الجميل
بالأندلس. فقد تراجعت المكانة العلمية للمدرسة من صرح علمي يضاهي أعرق
المؤسسات التعليمية بالمملكة، الى مجرد مدرسة ابتدائية مهملة و مهمشة تعنى
بالتعليم العتيق غير مصنفة و غير معترف بها من طرف وزارة التربية الوطنية.
شهادة متابعة الدروس التي تسلمها إدارتها لا تتيح للطلبة الالتحاق بمؤسسات
تعليمية أخرى قصد متابعة دراستهم. المنح الدورية الهزيلة التي يستفيد منها
طلبتها، والتي لا تتجاوز 300 درهم، لا تسمح لمعظمهم بمتابعة الدراسة. فمن
أصل 70 طالبا يلتحقون بالمدرسة عند بداية كل موسم دراسي، يغادر أكثر من
نصفهم المؤسسة قبل نهاية السنة الدراسية. هدر مدرسي من نوع آخر تعرف
أسبابه بينما تجهل نسبه الحقيقية و الصادمة. الطاقم التربوي، الذي لا
يتجاوز أربعة أساتذة بمن فيهم مدير المؤسسة، يعاني في صمت من أوضاع
استثنائية بكل المقاييس. فالتعويضات الشهرية لا تتجاوز 1000 درهم لا تسلم
لهم إلا بعد طول انتظار يمتد لأكثر من ثلاثة أشهر، وتلكؤ و تسويف من لدن
وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية. أساتذة لا يخضعون لقانون الوظيفة
العمومية ولا يستفيدون مــن أية تغطــية صحيــة واجتــماعــية، كــما أنهم
غير منخرطين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي و لا في الصندوق المغربي
للتقاعد، ولا يتلقون البتة أي تحفيزات. ومن عجائب المفارقات أن لا يجد
طلبة المدرسة البنكريرية، غالبا، ما يسدون به رمقهم، فيضطر أساتذتهم إلى
طلب المساعدة من بعض المحسنين أو أصحاب الأفران لمدهم بالخبز، في الوقت
الذي تقدر فيه القيمة المالية للعقارات التي حبسها المؤسس على المدرسة
بملايير السنتيمات. ويحب أحد الأئمة من قدماء هذه المدرسة أن يروي لطلبته
كيف أن باعة الذهب بملاح مراكش، و هم من المغاربة اليهود، كانوا يؤدون
بانتظام واجبات كراء الدكاكين، التي كانت تناهز 700 درهم شهريا في سنة
1986، بحسب الفقيه، لأنهم يعلمون أنها محبسة على المدرسة، مرددين بلكنتهم
المميزة “كاع لي مشات في الجامع مزيانة”، بينما يتقاعس بعض التجار
المسلمين في أداء ما بذمتهم. وعن حالة المؤسسة، يلخصها أحد أبناء
المـديـنة في مطلب واحــد ومحــدد “خــاصهــم يــعـــطــيـــو
للـــمـدرســة فــلـــوس كراء املاكها”. وقد كان الأساتذة و الطلبة يمنون
النفس بزيارة وزير الأوقاف و الشؤون الإسلامـية للـمـدرســة خـلال حلوله
مؤخرا بابن جرير للإشراف على تدشين بناء أحد المساجد للوقوف على حقيقة
الأوضاع بها. إلا أن شيئا لم يتحــقــق من انتظاراتهم، و لازالت
المــدرســة تــقــاوم بإبــاء وإصـرار آلة الإهمال المسلطة عليها و حالة
التهميش الذي لحقها.
والى جانب ضرورة التدبير الشفاف للموارد المالية والعائدات التي تدرها
الأملاك المحبسة على المدرسة، ترى بعض الفعاليات الثقافية المحلية أنه آن
الأوان لتأسيس جمعية لقدماء هذه المعلمة الثقافية من أجل صيانة ذاكرتها. و
يقترح محمد ناجي بن عمر، في هذا السياق، تنظيم أنشطة
و ندوات علمية و مباريات لحفظ القرآن و مناظرات شرعية و مسابقات ثقافية
بمقر المؤسسة من لدن المجلس البلدي ومجلس الجهة. ومن باب الذكرى و
العرفان، يقترح أن يسمى الشارع المار أمامها باسمها، و أن يسمى أحد شوارع
المدينة أو مؤسساتها التعليمية باسم أساتذتها و فقهائها. كما يطالب
الأساتذة بتوسيع المدرسة، التي لا تتوفر حاليا إلا على حجرتين دراسيتين
دون المساس بأصالة معمارها. و ذلك في أفق تحويلها الى ثانوية للتعليم
العتيق معتمدة و معترف بها من قبل وزارة التربية الوطنية، وبالاعتراف
حاليا بشهاداتها ومعادلتها بباقي شواهد المؤسسات التعليمة الأخرى. المدارس
العتيقة الأخرى بالرحامنة المدارس العلمية العتيقة الأخرى بمنطقة الرحامنة
ليست أحسن حالا من المدرسة البنكريرية. ففي الوقت الذي أصبحت فيه العديد
منها في خبر كان كالمدرسة الخضراوية ومدرسة كدالة، فإن المدارس الأخرى
تعاني من تواضع تجهيزاتها و هزاله الإمكانيات المتاحة للطلبة والأساتذة.
فلازالت قاعات الدراسة بأغلبها تفتقر إلى المقاعد والأفرشة وتقتصر على
“الحصير”. فسواء بمدرسة الهدى للتعليم العتيق بدوار الفدان العريان بجماعة
الجعيدات بقيادة رأس العين بجنوب الرحامنة، أو بمدرسة ابن خيران بقيادة
أولاد أتميم بشمالها، مرورا بمدرسة أولاد صالح لعبيدات بجماعة آيت الطالب
و بمدرسة مركز بوشان، فالأوضاع ترشح بالإهمال و التهميش، في ظل لامبالاة
الجماعات المحلية ووزارة الشؤون والأوقاف الإسلامية و وزارة التربية
الوطنية، و قصور و خلل بين في أداء و تدخل السلطات المحلية و الإقليمية
لإنقاذ ما تبقى من هذه المعالم الثقافية.

ابن جرير : عبد الرحمان البصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق